عندما ذهبت إلي الرئيس بلا موعد!
بقلم الكاتب الكبير الراحل: فتحي رضوان
في ذات ليلة عدت إلي بيتي.. وبينما أنا علي السلم المؤدي إلي مكتبي في المنزل. سمعت جرس التليفون، فعدوت نحوه ورفعت السماعة فإذا المتكلم »جمال عبدالناصر«. وكنت، انذاك وزيرا للمواصلات.. فسألني: »هل تعرف الدكتور مصطفي خليل؟« فقلت له: »لقد مر علي في مكتبي بعد أن حددت له موعدا بناء علي طلب الأخ زكريا محيي الدين، الذي فهمت منه أنه صديقه وزميله في نادي التجديف«. فضحك »عبدالناصر« وقال: »أنا عارف أن صداقتهما صداقة رياضية«. واسترسلت في كلامي بعد هذه المقاطعة قائلا: »لقد جاء يعرض علي فكرة ادخال نظام جديد اسمه نظام التحكم المركزي، يعني عن أزدواج الخطوط في السكك الحديدية«، فقال عبدالناصر: »ما رأيك فيه علي العموم؟« فقلت له: »إن جلسة واحدة لاتكفي للحكم له أو عليه، ولكن الأثر الذي تركه في نفسي في هذه الجلسة، كان طيبا«. فقال عبدالناصر: »وما رأيك أن يمسك وزارة المواصلات (وكان لفظ »يمسك« من تعبير الضباط، بمعني أنه يتولي أمر وزارة أو منصب ما). فقلت: »علي خيرة الله«، فقال: »إيه مش موافق؟« فقلت: »أبدا.. كيف لا أوافق وأنا لم أجلس معه إلا عشر دقائق«.. »فعاد عبدالناصر« يسأل.. وفي صوته شيء من التردد: »يعني رأيك إيه علي العموم«. فضحكت وقلت »رأيي علي العموم، هو رأيي علي الخصوص، ففي الحالين لا أستطيع أن أحكم عليه«. فقال: »يعني بلاش».. فاضطررت أمام هذا الالحاح أن أقول: »لا.. لا أبدا، ليس هناك ما يدعو إلي العدول عن ترشيحه. لكن اذا كنت تريد أن أقول شيئا من ظاهر الأمور، فإن مما يحسب له أنه مهندس سكك حديدية، وهو يدرس هذه المادة في كلية الهندسة، فهو مختص بالمرفق الذي سيشرف عليه. ثم هو حسن العرض لفكرته. ومظهره يحمل علي الاحترام، أما ما قد يعترض عليه به فهو أنه، أولا، صغير السن، وصغر درجته الجامعية، فهو مدرس. ثم أن اقتراحه الخاص بالتحكم المركزي رفض بشدة من جميع مهندسي السكك الحديدية« وقد يدفعه ذلك إلي اساءة معاملتهم. كما قد يحمله صغر سنه إلي الرغبة في إقالة الموظفين الكبار في السكك الحديدية والتليفونات« والمرفقان لايحتملان أن يحدث فيهما عملية كهذه. فقد أخرج منهما في أول الثورة عدد من خيرة المهندسين فقال عبدالناصر: »خليه يدي لهم علي رؤوسهم.. يستاهلوا«. وكان عبدالناصر دائم الشكوي من مرفق السكك الحديدية، ومن كبار موظفيها، ويتمني أن يتخلص منهم، أو يضع لهم من يتولي تأديبهم!!
ولكن هذه المكالمة انتهت بختام أراه مهما للغاية في الدلالة علي أسلوب اختيار الوزراء والرؤساء فقد قلت لعبدالناصر: »هل أخبرت باقي الزملاء بهذا التعيين الجديد؟ « فقال لي مندهشا: »ولماذا« أخبرهم؟«. فقلت له: »إن الوزير الجديد سيكون زميلا لباقي الوزراء، وسيجري بينهم تعاون حميم وقد يكون أحدهم يعرفه، وقد تكون علاقة أحدهم به سيئة، فكيف يتعاونان وزمالة أحدهم للآخر مفروضة علي كليهما. ثم أن الوزراء أحق بأن يعرفوا التغيير الذي سيطرأ علي مجلس الوزراء الذي ينتمون إليه، ويعملون فيه، بدلا من أن يقرأوه في الصحف كباقي القراء«. فكان جواب عبدالناصر »هل تتصور أن كلهم زيك.. السلام عليكم«.
وانتهت المكالمة.
واستمر ترك اختيار الوزراء وأشباههم من الرؤساء، للمصادقات. من ذلك أنه عرضت علينا يوما، مذكرة موقع عليها من الدكتور عزيز صدقي، مع اقتران إمضائه بلقب (المستشار الفني لرئيس الوزراء) فلما وقع نظر »جمال سالم« علي هذا الوصف، صرخ بأعلي صوته.. »ابن ال.. مين اللي عينه مستشارا فنيا لرئيس مجلس الوزراء؟..« كان رئيس مجلس الوزراء في ذلك الحين، هو اللواء، محمد نجيب فأعلن، علي الفور أنه لم يعينه، ولم يستعن به في شيء، ولم يعرض عليه أي عمل.. أو أي تقرير من تقاريره، وأن أقصي ما سمعه عنه أن الصاغ مجدي حسنين مدير مكتبه قد ألحقه بمكتبه كمعاون له أي لمجدي لا للرئيس وأنه لم ير التدخل فيمن يختارهم مدير مكتبه لمعاونته في عمله.
وعلق الوزراء علي هذا الأسلوب من الالتصاق بمكاتب رئيس الوزراء والوزراء بدون علم الوزير المختص، وبدون موافقة المجلس أو صدور قرار بذلك كل بما وفق إليه من كلام.. ونال »الدكتور عزيز صدقي« في تلك الجلسة، نصيب غير قليل من هذا الكلام. وبعد قليل.. لم يلبث »الدكتور عزيز صدقي« حتي أصبح وزيرا للصناعة ومقربا للرئيس عبدالناصر حتي أصبح فيما بعد رئيسا للوزراء!!
وإليك مثل آخر.. علي تعيين الكبار، وتقريبهم، وإبعادهم. ذهبت يوما إلي بيت الرئيس جمال بلا موعد، وسألت عن الرئيس، فقال لي أحد الضباط العاملين في مكتبه: »الرئيس موجود.. ولكن معه الدكتور عبدالمنعم القيسوني« فقلت له: »أرجو أن تخبره بوجودي«. فتردد الضابط قليلا.. فقلت له: »قل للرئيس إني موجود. فقد طلب أن أقابله، ولو كان معه غيره«. كان هذا القول مني صحيحا. المهم أنني دخلت مكتب الرئيس، فوجدت الدكتور القيسوني يعرض عليه أعمال وزارته، وكان من بينها اختيار شخص يتولي أمر الحراسة علي أموال الرعايا الفرنسيين والبريطانيين الذين هاجروا من مصر في أعقاب حرب السويس سنة ٦٥٩١، فرشح الرئيس جمال لهذا المنصب »الدكتور كمال رمزي استينو« وكان »الدكتور استينو« وزيرا للتموين في ذلك الحين. فاستفسر الدكتور القيسوني: »وهل سيترك ستينو الوزارة؟«. فقال الرئيس: »وفيها إيه؟«.. فقال القيسوني: »هذا سيكون محرجا لي. فضلا عن أنه سيشل رقابتي علي أعمال الحراسة.. اللهم إلا إذا ألحقت الحراسة برئاسة الجمهورية« فقال الرئيس جمال، مستنكرا هذا الاقتراح: »وهل ينقصني (قرف) جديد؟«.. ثم سأل: ألا يوجد عندك وكيل وزارة من وكلاء المالية يصلح لأن يكون حارسا؟«.. فاعتذر »القيسوني«.. بأن أعباءهم فوق ما يطيقون: كنت ساكتا ولم أشترك في الحديث برأي. إذ أن وجودي لم يكن مأخوذا في الحسبان، ولم يكن موضوع الحديث موضوعا عاما يسمح لغير الوزير المختص، أن يشارك فيه.. ولو بتعليق، ولكني رأيت نفسي مضطرا لأن أقول شيئا فقد سمعت، عند أول مقدمي أن الدكتور مصطفي خليل، وزير المواصلات« غير مستعد للتعاون مع المهندس موسي عرفة وكيل وزارة المواصلات، وأنه يطلب إقالته من منصبه أو نقله إلي وزارة أخري. وأن المهندس موسي عرفة طلب نقله إلي وزارة الري ولأنه أصلا من كبار مفتشيها. إلا أن وزارة الري اعتذرت عن قبوله بأنه ليس فيها منصب وكيل وزارة شاغر. فاقترح الرئيس جمال علي القيسوني نقله إلي وزارة المالية فقال القيسوني مندهشا: »مهندس ري.. ماذا يعمل في وزارة المالية؟« هنا قلت للرئيس: »لدي اقتراح لحل المشكلتين«.. فقال متهللا: »وماذا هو؟« قلت: »يعين موسي عرفة حارسا علي أموال الرعايا البريطانيين والفرنسيين فتحل بهذا مشكلة البحث عن حارس، وتحل في نفس الوقت، مشكلة موسي عرفة نفسه الذي يراد ابعاده عن وزارة المواصلات ولاتجدون له مكانا«. بدأ السرور الشديد علي وجه الرئيس جمال، هنأني طويلا علي هذا الحل ووقف قائلا: »هل صدقتني أن مجيئك نافع؟«.